ما يحدث على الضفة الأخرى من العالم الباحث عن «وطن» بديل لبعض الأوطان التي هجّرت أبناءها في عباب الأمواج المتلاطمة فيما وراء البحار والمحيطات لاكتشاف «الأمن» في أوطان الآخرين والمفقود منذ عقود في بلدانهم الأصلية سواء كانت في آسيا وأفريقيا أو أميركا اللاتينية، فالمطلوب على وجه السرعة هو أمر واحد لو تحقق ولو بعد حين لما وجدنا مهاجراً مهاناً أو مقتولاً أو غريقاً في تلك الامتدادات المجهولة حتى يأتي هؤلاء المهاجرون قسرياً اليقين بأنهم أموات فعلاً أو أحياءً من جديد وآمنون على أنفسهم وأهليهم في أرض الأحلام أو على أقل تقدير البديل المتاح في ذلك الحين.
هذا الحراك للبحث عن بقعة في العالم آمنة يسميه الغرب بالهجرة غير الشرعية وفق القوانين، التي تشرع أو توصف حال من ترك بلده تحت أي ظرف قاهر ولو تحمل عبء مغامرة الموت المحقق وبنسبة تقارب 100% في كثير من الأحيان، وضحايا الأيام القليلة الماضية التي فاقت الألف على السواحل الإيطالية خير شاهد على جسامة هذه القضية الإنسانية بالدرجة الأولى.
أوروبا التي كانت تتغنى منذ عقود وتعزف أشجان حقوق الإنسان الخالدة وألحان الكروان الصادمة ضاقت ذرعاً وبدأت تمسك أيديها عن هؤلاء التائهين في أعماق البحار والمحيطات بدل أن تمد إليها يدها أكثر وأكثر من ذي قبل نظراً لتغير الأوضاع الإنسانية في العالم من حولنا.
وبدل أن يذهب الاتحاد الأوروبي إلى التحقيق من معاناة هؤلاء المشردين من أوطانهم الأصلية، فقد قام في العام الماضي بتقليص عمليات الإنقاذ البحرية، بسبب جدل بعض المسؤولين بأن عمليات الإنقاذ «قد» تشجع على زيادة عدد المهاجرين؟! فقط كلمة «قد» هذه تسببت في إغراق المئات من المهاجرين الباحثين عن نقطة من الأمن من خلال المغامرة غير محسوبة النتائج لأنها في كثير من الأحيان صفير الموت يلاحق هؤلاء بدل مؤشرات الأمن والأمان لهذا الإنسان الحزين في وطنه الأصلي والمكلوم بالموت وسط أفواه كل أنواع الأسماك المفترسة هناك حيث انتظار المجهول.
فزيادة أعداد الضحايا في البحر المتوسط خلال الأشهر الماضية يعود إلى إنهاء برنامج البحث والإنقاذ الذي كان يدعو له الاتحاد الأوروبي، وقد نجح هذا البرنامج العام الماضي في إنقاذ نحو 100 ألف شخص.
ولقد تحول الاتحاد الأوروبي بهذا العمل غير الإنساني إلى برنامج آخر يمكن تسميته بـ«لا تنقذوا المهاجرين» لأنّ «قد» السابقة ذكرها قد يتحقق، في حين العقلاء في الأمم الأوروبية يؤكدون أنه من المهم جداً في هذه الأزمة الطاحنة هو فهم الأزمات المحلية، حيث يأتي العدد الأكبر من المهاجرين من الدول التي تشهد أكبر معدلات اللاجئين، والمشردين، ومنها: سوريا وإرتيريا والصومال، حيث يهرب هؤلاء من الحروب والصراعات والاضطهاد.
فالباحث عن الأمن في مكان لكي يتخذه وطناً له هو المطارد اليوم من ضفتي العالم أجمع، فأوروبا بدأت عمليات اللفظ الجماعي له، وأوطانهم المنكوبة لا زالت تطرد هؤلاء إلى لا هؤلاء، فمن الطبيعي أن يختاروا الموت لعلّ فيه الأمن لوطن طال انتظار حلول الأمن عليه وفيه.
وحالة المهاجرين إلى الموت هؤلاء رسالة واضحة للآخرين الآمنين في أوطان آمنة لم تذهب ضحية «ربيع» كاذب وبريق شعارات خادعة زادت من أحمال هذه الموجة من الهجرة غير الشرعية إلى بلدان لم تعد كذلك آمنة لأن فكر المتطرفين والإرهابين طال بلدان الاتحاد الأوروبي بصورة أو بأخرى، فإذا بنا بأفراد من تلك البلدان ذاتها يهاجرون فرادى وجماعات في هجرة معاكسة إلى مناطق «داعش»، و«جبهة النصرة»، و«القاعدة»، و«الحوثية» لمواجهة الموت بصبغة إسلاموية ووصفة «جهادية» لم توفر كذلك لهؤلاء وطناً آمناً ولا للأمن وطناً فخدعوا مرتين، الأولى عندما تركوا فعلاً مهبط الأمن في أوروبا ومرة أخرى عندما غرّتهم شعارات الإسلام السياسي باتجاه خلافة لا أثر لها في تلك البقع الساخنة، ولا عين غير المزيد من الغرق في قاع الأفكار السوداوية حتى قطَّعت الأرحام والأوصال من أجل سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وفي ساعة الاقتراب لم يحدث سوى الاحتراب.