لم يكن مفاجئا على الإطلاق تراجع ترتيب الإمارات عالميا على مؤشر حرية الصحافة، بموجب التقرير السنوي الذي تصدره منظمة "مراسلون بلا حدود". فمن المرتبة 119 لعام 2017، انهار ترتيب الإمارات 9 درجات دفعة واحدة؛ لتحل في المرتبة 128 لعام 2018. فما هي التطورات التشريعية والأمنية التي وقعت في الدولة طوا ل الشهور الماضية؛ وأدت إلى هذه النتيجة السحيقة؟!
نيابة تقنية المعلومات
رغم أن قضايا التعبير عن الرأي لم تتوقف وخاصة في العامين الأخيرين، على اعتبار أنها قضايا تمس أمن الدولة، وناهزت هذه القضايا المنظورة أمام محكمة أبوظبي للاستنئاف الثلاثين قضية طوال عام 2017، إلا أن ما أعلنه النائب العام من قرار في مارس العام الماضي، يقضي بإنشاء نيابة اتحادية مختصة "بجرائم تقنية المعلومات"؛ كان مرحلة فارقة فيما يقول ناشطون إنه تدهور لحرية التعبير وحرية الصحافة على حد سواء.
ومع ظهور مصطلح "الصحفي المواطن"، بات الناشطون يشكلون مصدرا رئيسا للحدث والخبر، وبات ما ينطبق على حرية الصحافة من معايير ينطبق عليهم.
فبعد أسبوع واحد فقط من تشكيل هذه النيابة، اعتقلت سلطات الأمن بعدها الحقوقي الكبير أحمد منصور، في اختفاء قسري وسط إدانات أممية وحقوقية موثقة. وظل منصور لسنوات مصدرا مستقلا ونزيها وحيدا ينقل إعلاميا عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما يحدث في الإمارات وسط سياسة الحجب والتعتيم ومنع الظهور الإعلامي لمئات الناشطين كونهم يمتلكون رأيا موازيا لرأي السلطة.
أما محكمة استئناف أبوظبي الاتحادية، التي تتولى معاقبة الناشطين والمدونين، فقد حكمت 3 سنوات سجن وغرامة نصف مليون درهم للصحفي الأردني تيسير النجار بتهمة "إهانة رموز الدولة". وحكمت على مواطن 10 سنوات بتهمة الانتماء لتنظيم "داعش اليمن". ولا يزال جهاز الأمن يرفض الإفراج- رغم انقضاء محكوميته- عن المدون الإعلامي الإماراتي أسامة النجار لتغريدات له على تويتر عام 2014، حكم عليه بالسجن 3 سنوات وغرامة نصف مليون درهم.
قرارات حكومية
وفي عام 2017، أصدر سمو الشيخ محمد بن راشد قرار مجلس الوزراء رقم (23) لسنة 2017 في شأن المحتوى الإعلامي. ونصّت المادة الثانية من القرار، تسري أحكام هذا القرار على المحتوى الإعلامي لأي نشاط إعلامي تتم ممارسته داخل الدولة بشكل كلي أو جزئي، بما في ذلك الأنشطة الإعلامية للأشخاص والجهات، ومنها مؤسسات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة التي تطبع أو تنشر أو تبث أو تتداول أو توزع المحتوى الإعلامي.
وأبرز قيوده: في المادة (4): "احترام نظام الحكم في الدولة ورموزه ومؤسساته، والمصالح العليا للدولة والمجتمع،..، وعدم نشر أو تداول ما يسيء إلى الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، بما في ذلك عدم إثارة النعرات المذهبية والجهوية والقبلية".
ونص على "ضرورة احترام توجيهات وسياسة الدولة على المستويين الداخلي والدولي، ..، ومراعاة مقتضيات المصلحة العامة، وعدم الإساءة للنظام الاقتصادي والقضائي والأمني في الدولة..". ويؤكد خبراء حقوقيون أن الكلمات الواردة فضفاضة ومبهمة بصورة تسمح للنيابة العامة توجيه الاتهام لأي شخص وتلقي القبض عليه وتسوقه إلى المحاكم التي أثبتت التجربة أنها بالكاد برأت حالة أو حالتين من بين عشرات الحالات، على ما يقول ناشطون حقوقيون.
ونصّت المادة (15) على تشكيل لجنة تسمى «لجنة رقابة المواقع الإلكترونية» برئاسة ممثل عن المجلس الوطني للإعلام، وعضوية ممثل عن وزارة الداخلية، والهيئة العامة لتنظيم قطاع الاتصالات، والهيئة الوطنية للأمن الإلكتروني.
وإزاء هذه القيود على الحريات، قالت صحيفة "نيويورك تايمز": دبي والإمارات تُخضع وسائل الإعلام لديها للرقابة. أما سارة ليا ويتسون المسؤولة في منظمة هيومن رايتس ووتش، فقالت: إنَّ "أي شخصٍ يقول شيئاً لا يحبه الشيوخ سيذهب إلى السجن".
قيود مباشرة على حرية التعبير
وفي منتصف العام الماضي، في بدايات اندلاع الأزمة الخليجية، شهدت الدولة "اختناقا" آخر لحرية التعبير، تمثل بقرار النائب العام في الدولة، حمد سيف الشامسي، من حظر التعبير عن التعاطف مع قطر، مع تحذير المخالفين من عقوبة السجن وفرض غرامة مالية.
وتضمن بيان للنائب العام، أنه "يحذر من أي مشاركات قولا أو كتابة على مواقع التواصل الاجتماعي أو أي وسيلة أخرى تحمل أي تعاطف مع دولة قطر أو اعتراضا على موقف الإمارات والدول الأخرى التي اتخذت مواقف حازمة ضد حكومة قطر". وأكد أن مخالفة هذه التحذيرات "قد تعرض صاحبها للسجن من 3 إلى 15 سنة وغرامة لا تقل عن 500 ألف درهم" (نحو 137 ألف دولار).
وكان أبرز ضحية لقرار النائب العام، هو المواطن غانم عبد الله مطر والذي اعتقله جهاز الأمن في أبوظبي، بعد أن نشر عددا من "السنابات" علق فيها على المطالب الـ13 التي قدمتها دور الحصار على قطر، متوقعا أن ترفضها الدوحة. وبسبب ذلك، قضى "شجاع الإمارات" بضعة شهور في الاختفاء القسري وسط تضارب في المعلومات إن تم الإفراج عنه أم لا يزال قيد الاحتجاز، أو تم إطلاق سراحه على ذمة القضية.
شرعنة الرقابة
وفي أبريل الجاري، اعترف سلطان الجابر رئيس المجلس الوطني للإعلام أن عدد المؤسسات الإعلامية المرخصة في المناطق الحرة بالإمارات يبلغ 38 محطة إذاعية و 180 محطة تلفزيونية و 54 صحيفة ومئات المجلات، لافتا إلى أن المجلس الوطني للإعلام وقع مذكرات تفاهم مع هذه الجهات لمراقبة محتواها، وأن سلطة المجلس على تلك الجهات لا يقتصر فقط على منح التراخيص بل إن المجلس يعد كذلك أداة رقابية على محتواها.
وتابع: "هناك ممثلون في مجلس إدارة المجلس الوطني للإعلام من المناطق الحرة والتشريعات الجديدة تسمح للمجلس التدخل المباشر والسريع في حال كان هناك أية مخالفة تحريرية في أي مؤسسة ونراقب هذه الأعمال بشكل مستمر".
وأضاف الجابر في تصريحات له في المجلس الوطني الاتحادي الذي يناقش سياسة المجلس الوطني للإعلام، الثلاثلاء (24|4)، إن "المجلس الوطني للاعلام لا يرى حاجة حاليا لخلق قوانين جديدة لتنظيم قطاع الإعلام".
وإزاء ذلك، تساءل ناشطون إن كان بالفعل، تراجع ترتيب الدولة 9 درجات فقط على مؤشر حرية الصحافة، نظرا لجسامة الانتهاكات الحقوقية المتواصلة بما يفرضه جهاز الأمن من سيطرة وقيود متزايدة على الحريات في الدولة، وفق تقارير دولية وبلاغات ناشطين حقوقيين.