استمتعت بتفاصيل الحوار الذي دار في
لحظة انتظار صغيرة في أحد مصارف دبي الوطنية بين ثلاثة من الرجال الإماراتيين
متفاوتي الأعمار والأجيال، استمتعت بفكرة الحوار ابتداء، وبما دار فيه، وبتلك
القدرة التي تجسدت في تنقل الأفكار وسلاستها وفي موهبة إدارة الخلاف والاختلاف
بمنتهى التحضر، وتمنيت في تلك اللحظة أمرين أن يطول الحوار لأتمكن من متابعة أفكار
الرجال الثلاثة في القضية المطروحة للنقاش بينهم وقد كانت في منتهى الأهمية،
وتمنيت لو أن منتجي البرامج الاجتماعية في قنواتنا التليفزيونية يبحثون عن مثل
هؤلاء للاستنارة بأفكارهم ومداخلاتهم بدل “الأشخاص” الذين يتم استئجارهم ليمثلوا
خلفية مصطنعة لجماهير برامج “التوك شو” في تلك القنوات تقليدا لمثيلتها في القنوات
الأميركية والأوروبية مع الفارق الشديد في دور الجمهور!
أولاً فقد كان الرجال يناقشون موضوع
التغيير الذي طرأ على العادات الصحية للناس في الإمارات من حيث نوع الطعام الذي
يتناولونه والعادات الصحية فيما يتعلق بالحركة والنشاط البدني المبذول والذي يميز
“ناس” زمان عن ناس اليوم الذين يعتقد هؤلاء الرجال أنهم لا يبذلون أي نشاط يذكر
باستثناء الوظيفة التي يقضي الانسان فيها معظم وقته مسمرا على كرسي المكتب من دون
أدنى حركة ما يضاعف تراكم الدهون وازدياد احتمالات الإصابة بأكثر الأمراض خطورة
كالسكر والسمنة والضغط وأمراض القلب، إن الشاب أو حتى الفتاة الصغيرة يفضل كلاهما
الذهاب الى أقرب مكان من البيت مستقلا سيارته وعند مدخل المحل يضغط على منبه الصوت
ليأتيه عامل البقالة أو المطعم من دون أن يفكر في بضع خطوات يمشيها خارج سيارته،
ما يعني اتهاما بالكسل واللامبالاة بشكل واضح لجيل اليوم فيما يخص صحتهم العامة.
إن عقد المقارنات بين الأجيال
والعادات ونوع الحياة والطعام والقيم وغير ذلك يعتبر واحداً من أوضح اتجاهات الناس
عموما في كل مكان، حيث يحلو للكبار مقارنة أنفسهم وما مضى من حياتهم وجدهم
واجتهادهم بحال أجيال اليوم من حيث عاداتهم وسلوكياتهم وطعامهم وثيابهم وعلاقاتهم
بمن حولهم وكيفية تعاطيهم مع كل التفاصيل المحيطة بهم ابتداء من تحية الصباح
وانتهاء بعادات النوم ومشاهدة التليفزيون ومتابعة مباريات كرة القدم، في العلاقة
بين الأجيال هناك عدم رضا متبادل ونقد يصل حد الهجوم وتبادل الاتهامات، وهذا كله
مبني أو ناتج من عدم الإقرار بمنطق التغيير ومدى سطوته على الأفراد وسيرورة
الحياة.
ليس الكبار فقط الذين يوجهون أصابع
النقد أو ينظرون بتهكم، لكن الأجيال الجديدة تفعل الشيء ذاته في تقييمها وعلاقتها
بالأجيال القديمة أيضا، فهم يعتقدون باستحالة التعايش على طريقتهم أو فهم عقليتهم،
خاصة هؤلاء الصغار الذين ينتمون لأمهات غير إماراتيات (ليس جميعهم حتما) أو للذين
نشأوا في أسر صغيرة لا تضم كبار العائلة كالأجداد والعمات والخالات مثلا!
وعلى أية حال فالصراع بين الأجيال سمة
كل المجتمعات وهو أمر طبيعي نتيجة اختلافات جذرية طالت بنية العقل والتفكير
وأساليب التربية والتنشئة ومناهج التعليم وحزم الرسائل الإعلامية التي تلقاها كل
جيل ونوع الاتصالات والمواصلات التي استخدموها، ذلك كله يؤثر في أساليب التفكير
والنظر الى الحياة والى القيم والقناعات، ومن هنا فإن ما أسجل اعجابي به في حديث
أولئك الرجال هو تلك السلاسة والمرونة في التعامل مع الاختلافات، من هنا أرى أن
الاستعانة بأمثال هؤلاء في البرامج العائلية والاجتماعية الموجهة للشباب ستحقق
سبقا وجماهيرية حقيقية لا زائفة، وأثرا اجتماعيا عميقا في الوعي العام.