في خضم إعادة ترتيب جيوسياسي تشهده منطقة شمال أفريقيا، تجد الجزائر نفسها محاصرةً في مشهد إقليمي يتغير بسرعة. فالتقارب المتسارع بين المغرب والإمارات، والدعم المتبادل بينهما في ملفات استراتيجية حساسة، يعمّق قلق الجزائر ويزيد من شعورها بالعزلة والتهديد.
أحد أبرز مظاهر التوتر الأخير تمثّل في الأزمة التي أثارها ظهور المؤرخ الجزائري محمد أمين بلغيث على قناة "سكاي نيوز عربية" المدعومة من أبوظبي، ووصفه للهوية الأمازيغية بأنها "مصطنعة فرنسية صهيونية". أثار التصريح ردود فعل غاضبة في الجزائر، التي سجنت بلغيث ووصفت الإمارات بأنها "دولة مصطنعة" تجاوزت "الخطوط الحمراء". لكن خلف هذا الجدل الثقافي تقف أزمة سياسية أوسع، تُعبر عن تدهور العلاقات بين البلدين، بحسب مقال للكاتب الفاضل إبراهيم على موقع " worldpoliticsreview".
هذا التوتر لا يُفهم خارج سياقه التاريخي، فالجزائر، التي بُنيت هويتها السياسية على مقاومة الاستعمار الفرنسي ودعم حركات التحرر، طورت عقيدة أمنية صارمة تُحذر من التدخل الخارجي والانقسامات الداخلية، خاصة بعد تجربتها الدموية خلال "العشرية السوداء" في التسعينيات. واليوم، ترى النخبة الحاكمة في الجزائر أن التحولات الإقليمية تُعيد إنتاج تهديدات قديمة بثوب جديد.
التحول المفصلي جاء عام 2020 مع توقيع المغرب اتفاقية تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، ما فتح لها أبواب دعم دبلوماسي قوي: اعتراف أميركي بسيادتها على الصحراء الغربية، ودعم لاحق من فرنسا وإسبانيا لمقترح الحكم الذاتي المغربي، وهي خطوات اعتبرتها الجزائر ضربة مباشرة لسياساتها التاريخية الداعمة لجبهة البوليساريو.
أبوظبي، من جهتها، تحولت من فاعل هامشي إلى لاعب رئيسي في هذا التوازن الجديد. دعمت سيادة المغرب على الصحراء، وكانت أول دولة عربية تفتح قنصلية لها في الإقليم، ثم وقّعت اتفاقيات اقتصادية ضخمة مع الرباط، بينها صفقة طاقة ومياه بـ13 مليار دولار، وتمويل خط أنابيب الغاز المغربي-النيجيري، وهو مشروع يرى فيه الجزائريون تهديدًا مباشرًا لصادراتهم الطاقوية إلى أوروبا.
وفي منطقة الساحل، التي طالما اعتبرتها الجزائر عمقها الاستراتيجي، بدأت تخسر نفوذها أمام دول وجماعات جديدة. المجالس العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، إضافة إلى تنامي الحضور الإماراتي والتركي والمغربي، أدت إلى تراجع دور الجزائر كوسيط أمني، خاصة بعد انهيار اتفاق الجزائر للسلام في مالي عام 2023.
ومع دعم فرنسا لخطة الحكم الذاتي المغربية، والتوتر المتصاعد مع مالي، وعودة ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض، تزداد عزلة الجزائر الإقليمية والدولية. تصريحات الرئيس عبد المجيد تبون الأخيرة التي وصف فيها الإمارات بأنها "دولة مافيا"، تعكس تصعيدًا غير مسبوق وتحوّلاً في الخطاب الجزائري من التحفّظ إلى المواجهة العلنية.
في هذا السياق، لا يبدو أن الخلاف مع الإمارات مجرد توتر عابر، بل هو أحد تجليات أزمة أعمق تواجهها الجزائر في التأقلم مع مشهد إقليمي جديد، تُعاد فيه صياغة موازين القوى، وتجد فيه نفسها في موقع دفاعي، في ظل تسارع تحالفات لم تُحسب حساباتها بعد.