أخطأت أنقرة في بداية ثورات الربيع العربي، حين اعتقدت بأن الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تتغنى دائما بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، ستدعم نضال الشعوب العربية الثائرة ضد الدكتاتوريات ومطالبتها بالحرية والديمقراطية. وأخطأت مرة أخرى حين ظنت أن الأمم المتحدة ستتحرك عاجلا أو آجلا لمنع إراقة الدماء في سوريا والحيلولة دون ارتكاب مزيد من المجازر في حق المدنيين العزل.
الحكومة التركية منذ بداية الثورة السورية حاولت كثيرا إقناع إدارة أوباما بضرورة التدخل في سوريا وإقامة مناطق آمنة وفرض حظر الطيران، لحماية المدنيين والمدارس والمستشفيات من القصف العشوائي والبراميل المتفجرة، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل.
وبعد صبر وانتظار طالا أكثر مما ينبغي، رأت أنقرة أن الرهان على أمريكا والدول الأوروبية والأمم المتحدة في حل الأزمة السورية ستكون عاقبته مكلفة للأمن القومي التركي، لوقوف واشنطن إلى جانب الميليشيات المعروفة باسم «وحدات حماية الشعب الكردية»، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، في شمال سوريا، وتمدد تلك الميليشيات نحو غرب الفرات تحت مظلة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، في محاولة لفتح ممر يمتد من شمال العراق إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط على طول الحدود التركية السورية، ليفصل الأراضي التركية عن الأراضي العربية بشكل نهائي.
القادة الأتراك حذَّروا إدارة أوباما مرارا وتكرارا من عواقب دعم وحدات حماية الشعب الكردية، والتعاون مع المنظمة الإرهابية في مكافحة تنظيم الدولة في شمال سوريا، إلا أن الحليف الأمريكي اختار التهرب من خلال اللجوء إلى سياسة المماطلة والمراوغة، وزعم أن وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال الكردستاني منظمتان مختلفتان ولا علاقة بينهما، كما حاول طمأنة تركيا بوعود كاذبة تهدف إلى كسب الوقت. لم يبق أمام أنقرة غير اتخاذ القرار من جانب واحد، والتحرك لإزالة المخاطر التي تهدد حاضر تركيا ومستقبلها. ومن هنا جاءت عملية درع الفرات لإبعاد تنظيم الدولة عن الحدود التركية وإفشال المخطط المشبوه الذي تسعى القوى الدولية والإقليمية تنفيذه على يد وحدات حماية الشعب الكردية، لفرض أمر واقع في المنطقة.
تركيا، اليوم وبعد اليوم، لن تتردد في التحرك وحدها دون أن تنتظر موافقة أحد للحفاظ على أمنها القومي، ولديها خطط بديلة، إذا تلكأت واشنطن وبقية حلفائها في الناتو في التنسيق والتعاون معها، سواء في الشمال السوري أو الشمال العراقي، لأنها لا تريد أن تستيقظ ليوم قد فات فيه الأوان.
هذا الحزم الذي أبدته أنقرة، دفع وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر إلى زيارة العاصمة التركية، والقول إن واشنطن تتفهم اهتمام تركيا بالتطورات في العراق وسوريا، كما أعرب عن رغبة بلاده في مشاركة تركيا في عملية تحرير مدينة الموصل، مجدِّدا تعهد الولايات المتحدة بشأن إخراج عناصر وحدات حماية الشعب الكردية من مدينة منبج السورية.
تركيا عازمة على المشاركة في عملية تحرير الموصل، كذلك على إخراج عناصر وحدات حماية الشعب الكردية، سواء التزمت إدارة أوباما بعهدها أو لم تلتزم. وخير دليل على ذلك الغارات الجوية التي نفذتها المقاتلات التركية لضرب مواقع تلك الميليشيات في شمال سوريا قبيل زيارة كارتر لأنقرة.;