وهذا ينطبق على الفكر بشكل عام وعلى السياسة، كذلك الاقتصاد والاجتماع والثقافة، أي بمعنى كل الأطر المجتمعية والأنساق التي تحيط بالفرد من كل الاتجاهات.الذين يتفاعلون مع عملية البناء الفكري للمجتمع ولا ينفعلون، بمعنى أنهم لا يبنون آراءهم على موجات من الانفعالات الآنية، هؤلاء يملكون زمام الشطح والزلل في طروحاتهم ومقترحاتهم في شق طريق النماء وريه بماء التنمية والتقدم والازدهار.
فالأفكار تثري والنزاعات والخلافات حولها تفقر المعاني والمباني وترهل الوصول إلى الهدف الأسمى لكل فكر جديد يحاول التسلل إلى أروقة المجتمعات التي قبلت تطبيق منهج الانفتاح على الغير من دون قلق أو تردد، بل إن سلاح الثقة هو الماضي لإزالة التراكمات السلبية حول أي تغيير يراد به القفز المدروس للوصول إلى المنشود.
من السهولة أن يختلف اثنان على أي قضية، مساحة الجدل فيها واسعة ومتشعبة، وكذلك من الصعوبة بمكان الاتفاق بدرجة كاملة على المختلفات، لأن في ذلك إزالة للتمايزات بين البشر وحصر للعقل في زاوية ضيقة لو استمر فيها لعشعشت فيها الأفكار العبثية والسوداوية، وطردت منه الناصع والنافع.
قبل عقود كانت الأفكار تمحص وتشذب مرات ومرات قبل أن تأخذ نصيبها من الانتشار بين الناس، أما في زمن «تويتر» و«فيسبوك» أو «واتس آب»، فالأفكار فيها طيارة لا تجد لها خبرة راسخة للبناء القويم، فالخطورة هنا هو في إصدار الأحكام القطعية من خلالها والتي تكون إلى القطيعة أقرب منها للتلاحم ورص الصفوف، مازالت مجتمعاتنا بحاجة إلى الأفكار العميقة أو الثقيلة التي لا تتأثر برياح أفكار العنف والتطرف والإقصاء التي تخالف حتى المتعارف عليه بين عامة الناس.
من هنا يحل فكر الاعتدال والوسطية عنصراً مشتركاً يصعب الاختلاف عليه ويسهل بناء جسور التعاون حوله، حتى لو اختلفت الأجناس والأعراق والأديان، لأنها في النهاية الكل يبحث عن المشترك الذي يحيِّد المختلف عليه حتى لا تضيع المصلحة من نهج الاعتدال المحبذ والمحبب لدى الشريحة الأكبر في العالم.
خذ مثلاً فكرة التعايش وطرْ بها في أصقاع العالم، واستطلع آراء الناس حولها فلن تجد من يختلف حول هذا المضمون، لأنه ينشر السلم الاجتماعي بين المجتمعات، التي تود أن يكون ذلك دافعاً لها في كل مشاريعها الإنسانية. وجرب بالمقابل فكرة الإقصاء تجدها منبوذة ابتداء، أو لأنها تصطدم بكل ما هو مشرق وعبق ولا تزرع في الناس إلا الأحادية البغيضة وتمحو التعددية التي تعطي للحياة كل ألوانها الزاهية.
لأن الفكر الذي يسمي «الانتحار» جهاداً، وتفخيخ البشر عملاً بطولياً وقطع الرؤوس وبقر البطون تقرباً إلى الله وقرباناً لا يجب أن يمر هكذا من دون تمحيص وتفتيت، وذلك حتى تعرف الأباطيل التي تساق في عالم الأفكار المخرومة.
لابد من الالتقاء على الفكر الذي يساهم في البناء ويبعد المجتمعات عن الدخول في متاهات لا طائل وراءها، من هنا كان ضرورة وجود أدوات ضبط الأفكار ومنعها من الاتجاه نحو الانحراف عن المسار التنموي، فالفكر هنا يمثل دور الرافعة التي تحمل المجتمع وتقدمه للآخرين على أساس أنه قادر على أن يضيف إلى البشرية، ما يؤثر في تعميرها ويقف سداً منيعاً ضد كل فكرة تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.