في كتابه «تاكسي.. حكايات المشاوير»، يُفصّل خالد الخميسي، المجتمعات العربية دون كلمة واحدة منه، فقط حوارات بسيطة مع سائقي سيارات الأجرة، الذين يمثلون ترمومتراً حقيقياً لما يجري، ما الذي تريد معرفته عن دولة ما: الزحمة، الأسعار، اهتمامات الناس؟! كلها تجدها عند سائقي التاكسي، هل هناك ما هو أفضل من مندوب حقيقي يجوب الشوارع طوال اليوم؟!
كمريد قرأ كتاب الحكمة.. أُشيرُ إلى ذلك الرجل الطاعن في السنّ ليُوقفَ مركبته ذات اللونين الأبيض والأسود الشهيرة، فيقف، وأركب، سؤال اجتماعي آخر لماذا نخجل من ركوب سيارات الأجرة في الإمارات، ولا نخجل من فعل ذلك في أوروبا أو في الدول العربية التي نسافر إليها، بل نلتقط صوراً للممارسة ذاتها إذا قمنا بها في نيويورك أو لندن؟ انظروا أنا هنا مع التاكسي الشهير! حالة اجتماعية تستحق الدراسة! أين كنا؟ في التاكسي بالطبع! بعد ركوبي يُخرِج السائق شريطاً من تلك الأشرطة القديمة، ويدخل قلماً كان فوق إحدى أذنيه في أحد الثقبين.. يقرّب الشريط من عينيه ليرى الثقب الذي تلتف حوله بكرة أكبر، ويبدأ بإعادة البكرة بطريقة مستفزة باستخدام القلم.. ثم ينظر نحوي وهو يقول: تسمع حاجة للست؟!
سؤال اجتماعي ثالث: لماذا هي وحدها «الست»؟ أليست هي صفة عليهن جميعاً! أشير بنعم.. يضع الشريط في الجهاز الذي يعمل بقدرة سماوية مثل الأزل... ليخرج الصوت مشروخاً متقطعاً متذبذباً، يصعب على الأذن التي اعتادت سماع النغمات من نظام «دولبي» السينمائي أن تستسيغ هذه الحفر في الأغنية! هنا ينظر إليّ السائق بتلذذ، وهو يقول صادقاً: الله.. الله.. إيه ده يا ست؟! سؤال اجتماعي رابع: كم مرة دخلت إلى الإنترنت للبحث عن جملة «فضيحة لفلان الفلاني»، لكن هل بحثت يوماً عن سر جودة صوت «دولبي»؟! ستدهشك الحقيقة!
ما المادة التي امتلكها ذلك السائق ليملأ الفراغات الصوتية ويستمتع باللحن؟! لا أدري! تدور الكاميرا الاجتماعية إلى مشهد آخر لمجموعة تحمل ذلك المنظر المميز للمثقف التكعيبي: شعر طويل، غليون، عصابة على طريقة موشي ديان.. يقف أمام تمثال أنت لا ترى فيه إلا الأجزاء المكسورة، بينما هو يمتلك تلك المادة التي تملأ الفراغ المكسور في عينيه، ويقف ساعات ليتحدث عن الإنثناءات الجميلة في التمثال، أو الرقة التي لا تراها في الألوان الباهتة للوحةٍ كانت جميلة.
تدور الكاميرا مرة أخرى إلى فعالية اجتماعية، مسلسل تلفزيوني، نشاط رياضي، حِراك اجتماعي.. ترى أن الكثيرين يملكون تلك المادة التي تجعلهم يرون الجمال، فهي تملأ الفراغات وتساوي الارتفاعات، وتحجب الثقوب فيكون كل ما يرونه جميلاً، بينما أنت تحاول سبر أغوار المادة علها تملأ عينيك وقلبك، فترى الجمال الذي يراه الآخرون! ولا تنجح! يقول بعضهم إن هذه المادة تسمى التغافل.. تغافل عن مستصغر السلبيات لترى في عالمك إيجابية كبرى!
سؤال اجتماعي أخير: ما الذي يملكه ذلك السائق ولا أملكه أنا، ويجعله يمتلك تلك المادة؟!