استكمالاً لمقال الأسبوع الماضي «أوباما والاستقالة الطوعية من الزعامة» الذي تحدثت فيه عن بعض ملامح «عقيدة أوباما»، سأشير هنا إلى جوانب من خلفيات وأبعاد تلك العقيدة السياسية على نحو ما ظهرت مؤخراً في اعترافات لأوباما نفسه. وقد جاءت اعترافات أوباما الصادمة والجائرة في مقالة للصحفي جيفري جولدبرج، بعد سلسلة مقابلات مع أوباما، نشرها في مجلة «ذي أتلانتيك»، تحت عنوان «مبدأ الرئيس أوباما» أو «عقيدة أوباما»Obama Doctrine وما كشف عنه ليس جديداً، ولكن هذه قد تكون هي المرة الأولى التي يوضح فيها رئيس أميركي مبدأه في نهاية عهده وليس في بدايته! كما وقع مع مبدأ أيزنهاور ومبدأ نيكسون ومبدأ كارتر وغيرهم.
ويؤكد توضيح أوباما، عبر مقابلات جيفري جولدبرج الصحفي الأميركي اليهودي، ما كتبناه هنا من قبل وحذرنا منه، وهو يستحق التوقف عنده وتقويمه والتعليق عليه، وخاصة لجهة تكشُّف التراجع والانكفاء والانسحاب والتخلي عن الزعامة طوعاً وترك الشرق الأوسط الذي يؤمن أوباما بأنه لم يعد يشكل أهمية في الاستراتيجية الأميركية، والأخطر أنه يرى أن تكلفة التدخل الأميركي أكثر من تكلفة عدم التدخل. وقد تفاخر أوباما مؤكداً أنه سعيد بعدم التدخل في سوريا، لأنه مقتنع بأن التدخل الأميركي لن يصلح ما أفسده الدهر في الشرق الأوسط! وخاصة أن في عقلية أوباما الاستراتيجية التي يراها واقعية وعملية أن منطقة شرق آسيا والصين أهم استراتيجياً للمصالح الأميركية من منطقة الشرق الأوسط، التي استنزفت أميركا خلال عقد ونصف عقد من الدماء والأشلاء وهدر الأموال، دون أن تتحقق النتائج المرجوة في أطول حربين تخوضهما أميركا في تاريخها، وهما الحرب على الإرهاب والحرب في أفغانستان. بل على العكس من ذلك في عهد بوش الابن اكتشفنا حسب تسريبات زلماي خليلزاد، السفير الأميركي السابق في أفغانستان والعراق، أنه كان هناك تعاون وتنسيق بين واشنطن وطهران، واجتماعات سرية في جنيف قبل غزو العراق، وتنسيق لعزل إبراهيم الجعفري رئيس وزراء العراق الأسبق ووزير الخارجية الحالي عام 2006 -بتنسيق من وسطاء، وبقيادة قاسم سليماني قائد الحرس الثوري- ووصل الأمر إلى درجة وجود تعاون أميركي- إيراني لتعيين حامد كرزاي رئيساً لأفغانستان!
ولا جدال طبعاً في النتائج الكارثية لحصاد تدخل «المحافظين الجدد» في المنطقة، خلال عهد بوش الابن، ثم تردد وتراجع وانكفاء عقيدة أوباما بعد ذلك! ما جرّأ الخصوم وأقلق الحلفاء! وخاصة بالنظر إلى ما حل بالعراق وسوريا، وزيادة حدة التطرف والصراع المذهبي السني- الشيعي، وظهور وتمدد «داعش». وتفاخر إيران بسيطرتها على أربع عواصم عربية! والنتيجة ككل هي الفوضى التي تعم المنطقة اليوم!
ويأخذ الحلفاء العرب والخليجيون على مبدأ أوباما النكوص عن تعهداته ووعوده وتطميناته للقادة الخليجيين في قمة كامب ديفيد في مايو 2015! ومن أخطر الاتهامات أيضاً اقتناعه، بعكس ما يراه كثير من مراكز الدراسات البحثية والمفكرين المختصين في الشؤون الخارجية، أن عدم حزم واشنطن والاستقالة الطوعية من الزعامة، هي في رأيه النهج الصائب! ثم يحاضر أوباما بعد ذلك في انتقاده للحلفاء، زاعماً أنهم «ركاب بالمجان»Free Rider -ونحن منهم وكذلك الأوروبيون- قائلاً إنهم يريدون أن تقاتل أميركا عنهم! وإنهم لم يقدموا الكثير!
وكان من اللافت الانتقادات اللاذعة وتفنيد وتبيان تناقضات أوباما على لسان كل من الأمير تركي الفيصل رئيس جهاز الاستخبارات والسفير السعودي السابق في واشنطن ولندن، والشيخ ثامر الصباح رئيس جهاز الأمن الوطني في الكويت، اللذين رفضا اتهامات أوباما للحلفاء الخليجيين بأنهم «راكبون بالمجان»! وبادرا بتذكير أوباما بأننا لسنا «راكبين بالمجان» بالأدلة والبراهين، وخاصة بالتنسيق والتعاون في محاربة الإرهاب، وإشادة أوباما نفسه بدور ومساهمة السعودية، واعترافه بأن سياسات إيران تزعزع الأمن في الشرق الأوسط. وكذلك تذكير الشيخ ثامر لأوباما بأننا «لسنا منتفعين بالمجان» وأن «الاتفاق النووي مع إيران لم ينهِ قلقنا منها»! وعلى إدارة أوباما وسفرائها أن يقرؤوا هذه الانتقادات الخليجية، التي ستتصاعد، بجدية لمعرفة حجم الغضب والانزعاج من اتهامات أوباما وإدارته الظهر للحلفاء، والصمت كلياً عن مشروع إيران التوسعي وتدخلها في شؤون الآخرين وزرع الخلايا الإرهابية!
إن مبدأ أوباما مُحبط للغاية للحلفاء ومريح للخصوم، وقد سمح للخصوم بالتحول إلى لاعبين رئيسيين وكسر احتكار واشنطن كلاعب وحيد في المنطقة! والخطر الأكبر ألا يكون مبدأ أوباما مقتصراً على استراتيجيته هو فقط، إذ قد يصير نهج الإدارات الأميركية القادمة، أكانت من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري! وسنفصل ذلك أكثر في مقالات مقبلة!