في سنوات السبعينيات، دار نقاش كبير جداً حول ضرورة التدفق الحر للمعلومات والأنباء بين دول الجنوب أو ما كان يعرف بدول عدم الانحياز، ودول الغرب بزعامة الولايات المتحدة التي كانت مصرة على فتح كل البوابات والقنوات، لتتدفق منها كل الأخبار وكل الأفكار وكل المعلومات دون حجب أو حجر أو منع، هذا الحوار كان يتم ضمن مؤسسات عالمية كالأمم المتحدة ومنظمة دول عدم الانحياز، وكان هناك رفض من طرف وإصرار من طرف الغرب!
في نهاية الأمر، انتصر مبدأ التدفق الحر للأخبار والبرامج والصور والأفكار الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية، باقتصادها الحر ومؤسساتها الإعلامية الضخمة واقتصاد صناعة الأخبار والمعلومات، ونجح الغرب لأن مستقبله وصناعته كانا يرتكزان على هذا التدفق الحر، وفعلاً انفتح الفضاء وزالت القيود واختفت الرقابة بنسبة كبيرة جداً.
اليوم نقف متأملين مشهدنا الإعلامي العربي، ومتسائلين: ماذا حقق لنا هذا التدفق الحر وماذا سلبنا؟
صحيح أن العالم كله يعيش مرحلة انفلات الإعلام من قيود الرقابة، وصحيح أننا ننادي برفع سقف الحرية وعدم الحجر على الأفكار، وجعل الناس أحراراً فيما يؤمنون به من آراء، لكن ذلك لا يعني اللامسؤولية، ولا يعني عدم المبالاة بهوية وأخلاق المجتمع، أو توجيه ضربات علنية إلى قيم إنسانية تعارفت عليها المجتمعات كاحترام الإنسان والارتقاء بنظرته إلى الحياة واعتزازه بكرامته وقيمه.
هناك أهداف، وليس هدفاً واحداً فقط يسعى الإعلام لتحقيقه والوصول إليه، المال أحد هذه الأهداف، والسيطرة على العقول أحدها، وتوجيه الأفكار والذائقة والتأثير في الناشئة وترويج ثقافات معينة، إضافة إلى محاولة الجميع التسلق على أكتاف الجمهور لتحقيق الصدارة والقيادة الإعلامية.
النقطة المضيئة هنا تتعلق بالجمهور الذي لا بد من المراهنة على وعيه وتماسك قيمه وقناعاته، فمهما كانت قوة الدعايات والشعارات التي تغزو عقول الناس، فإن هذا الجمهور لا يأتي لمشاهدة البرامج خالياً من القيم والأفكار والأخلاق.
هذا الجمهور تعرض لتربية ولمحددات وموجهات أخلاقية وفكرية كفيلة بجعله يقبل أو يرفض ما يعرض عليه، وإن إشكالية القائمين على الإعلام أنهم لا يضعون حساباً لردة فعل الجمهور حين يتم التجاوز على قيمه وخطوطه الحمراء التي لا يتسامح حيالها أبداً، وهذه نقطة ضعف لا بد من التصدي لها والعمل على دراستها جيداً حتى نقدم إعلاماً جيداً وقوياً، ومتسقاً مع احتياجات ورغبات الجمهور.