نقول دائماً إن المصريين خفيفو الظل وأهل نكتة، بديهيتهم حاضرة بسرعة حينما يتعلق الأمر بالسخرية والضحك، ليس استهزاء بظروفهم -فقط- ولكن لأنهم لم يجدوا أفضل من السخرية للانتصار على اليأس والبؤس وتردي الأحوال وتفريج الهم والتخفيف من الضغط.
لقد كان المصريون ولا يزالون يحولون كل شيء حولهم إلى مادة للتندر، وإلى سيل من النكات حتى في أسوأ الظروف كأوقات الهزيمة والأزمات السياسية، وبناء على ذلك فإن اللواء حسن أبو باشا اعترف لمجلة »روز اليوسف« عام 1998 قائلاً: »إن جهاز أمن الدولة يقوم بتجميع النكات من خلال قياسات الرأي العام، حيث كانت تتجمع لدى الجهاز الكثير من النكات السياسية المتداولة بين الناس، وكنت أنا ـ يقول الرجل ـ مديراً للجهاز أقوم بعرض تقرير أسبوعي على مجلس الوزراء عن اهتمامات الرأي العام من خلال تحليل النكات ومدلولاتها!!«.
ما لا يعرفه كثيرون منا، أن الروائي الفرنسي جيلبرت سينويه ولد وعاش في مصر وكتب عدة روايات حول التاريخ والحياة في مصر القديمة، وفي أول روايته التي بعنوان »المصرية« كتب سينويه: »يولد المصري وفي قلبه ورقة بردي مكتوب عليها بحروف ذهبية، إن السخرية هي المنقذ من اليأس!«.
يدفع اليأس صاحبه لطريقين: إما الضحك كما يفعل المصريون، وإما الانتحار كما يفعل بعض سكان الرفاه المادي كالسويد واليابان، لكن المصريين لا ينتحرون، إنهم يسخرون، ولقد سخروا حتى أسقطوا أنظمة سياسية من جذورها، إنهم المثل الأعلى في خفة الظل واختراع النكتة، مع ذلك فخفة الدم لا تعني أن صاحبها سعيد، وأن حياته على أفضل حال، لكنها تعني أنه محب للحياة إلى حد مقاومة اليأس بالحيلة، ومقاومة البؤس بالنكتة، حين لا تتاح له أشكال المقاومة الأخرى بسبب طغيان النظام.
في عالمنا العربي يقاوم الناس الطغيان وتردي الأحوال والفقر والفساد، بالشعر الساخر وبالنكتة وفن الكاريكاتير والمقالات والبرامج الساخرة، ومع ذلك فقد قتل الكاريكاتير ناجي العلي، وسجنت المقالات الساخرة محمود السعدني، وأدخل الشعر الساخر أحمد فؤاد نجم المعتقل مراراً وتكراراً، ولم ينج الروائيون ومقدمو البرامج الساخرة من المصير نفسه!
من أجمل الكتب التي يمكن أن يقرأها الإنسان لفهم ظاهرة النكتة السياسية كتاب الصحفي عادل حمودة، ففي هذا الكتاب يقدم حمودة النكتة السياسية في مصر على أنها جزء من نظام الحياة المصرية، وتاريخ المقاومة ضد الاستبداد، فهي سلوك موجه ومقصود برغم كمية الضحك فيه، إنها تعبير حقيقي عن رأي رجل الشارع البسيط والإنسان المثقف معاً لكل ما يجري، ولذلك اهتم بها ودرسها كثير من الفلاسفة وعلماء النفس مثل أرسطو وفرويد، وتحدث عنها نابليون وفرانكو، واهتم بها جمال عبدالناصر بشكل كبير جداً!!