كشف تحقيق استقصائي ضخم نشر على أجزاء خلال اليومين الماضيين, على نحو متزامن في 55 وسيلة إعلامية دولية كبرى، معلومات مسرّبة حول حسابات مصرفية سرّيّة في بنك HSBC (فرع سويسرا) رفعت الغطاء عن أعمالٍ مثيرة للجدل، مارسها المصرف البريطاني الذي يعد من أكبر المؤسسات المالية في العالم، وتورّطت فيها شخصيات مشهورة دوليا من عملائه، من بينهم ملوك وأمراء ومسئولون، وأحدهم ولي العهد البحريني سلمان بن حمد آل خليفة.
وبحسب هذا الكم الهائل من المعلومات المسرّبة التي أتت في سياق تحقيق أنجزه الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية بمشاركة 140 صحفياً من 45 دولة، فإن الفرع السويسري لبنك HSBC ساعد زبائنه الأثرياء على اتّباع إجراءات معيّنة لتفادي دفع الضرائب وإخفاء ملايين الدولارات من الأصول المالية، من خلال توزيع مبالغ لا يمكن تعقّبها، وإرشادهم إلى كيفية التحايل على السلطات المعنية بالضرائب.
وذكر التقرير الذي نشر في "الغارديان" البريطانية و"لوموند" الفرنسية و"سي بي سي" الكندية و"الوطن" المصرية، إضافة إلى عشرات الوسائل الإعلامية الأخرى، أنّ من أصحاب الحسابات المستفيدة من هذه العمليات في بنك HSBC فرع سويسرا أفراد أسر ملكية، من بينهم ولي العهد البحريني الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، وملك المغرب، وعشرات من أفراد الأسرة الملكية السعودية.
وفي التفاصيل، أظهرت المعلومات، أن ولي العهد البحريني سلمان بن حمد آل خليفة، يملك 12 حسابا في البنك، تحت اسم شركتين، باعتباره مساهما، وتبلغ قيمة الأرصدة في حساباته حتى العام 2007 قرابة 21 مليون دولار.
وتعد هذه الملفّات السرّيّة، التي تغطّي فترة ما بين عامي 2005 و2007 في بنك HSBC، من أكبر التسريبات المصرفية في التاريخ، إذ تلقي الضوء على حوالي 30,000 حسابًا، تحمل ما يقارب 120 مليار دولار أمريكي (78 مليار جنيه إسترليني) من الأصول.
وعلى الرغم من أنّ هذه المعلومات المسرّبة كانت في متناول أيدي السلطات الضريبية حول العالم منذ العام 2010، إلا أن حقيقة تجاوزات هذا البنك السويسري لم تظهر للعلن قبل الآن.
وتضمّنت البيانات أيضًا أسماء أصحاب متاجر، وتجار ألبسة ونجوم هوليود وكذلك ورثة بعض أكبر الثروات في أوروبا، كما أنّ مجموعة من المجرمين امتلكوا حسابات سرّية في هذا المصرف أيضًا، من بينهم تجّار مخدرات، وتجّار أسلحة ومهرّبو ألماس، وفقًا لتقرير وكالة الأخبار الدولية الذي نشرته أمس الأول.
وقد ألقت الحكومة البريطانية اليوم تصريحا حول الفضيحة داخل مجلس العموم البريطاني، ويتوقع أن تحدث هذه المعلومات ردات فعل كبيرة لدى حكومات الدول الأوروبية وأمريكا، وأن يترتب عليها تبعات مساءلة على مستوى رئاسة الوزراء.
ويقف وراء هذه التسريبات الخبير المعلوماتي، هيرفيه فالسياني، البالغ من العمر 36 عامًا، والذي ألقت الشرطة الجنائية الاتحادية السويسرية القبض عليه في 22 ديسمبر 2008، بتهمة سرقة بيانات من بنك HSBC فرع سويسرا، الذي كان موظّفًا فيه، ومحاولة بيعها إلى مصارف في لبنان. وعليه، صادرت الشرطة حاسوب فالسياني وفتّشت منزله في جنيف وحققت معه لساعات عدّة.
وبعدها، أطلقت الشرطة سراحه بشرط أن يعود في اليوم التالي لاستكمال الاستجواب. غير أن فالسياني سرعان ما غادر إلى فرنسا برفقة زوجته وابنته حيث بدأ بتحميل كميات كبيرة من بيانات البنك، التي كان قد حفّظها في أجهزة خادمة بعيدة، ممّا أضرّ بأشخاص أثرياء حول العالم استخدموا حسابات خارجية للتهرب من الضرائب. وقد كشفت البيانات أسماء العملاء وأرصدة حساباتهم فضلًا عن ملاحظات عن محادثات المصرف مع العملاء.
ومثّل ذلك اليوم نقطة محورية في رحلة فالسياني الطويلة والغريبة، إذ تنقل فالسياني ذو الشخصية المميزة من بلدٍ إلى آخر للفرار من السلطات السويسرية- وربما من أفراد مجرمين يرغبون في إيذائه-، ولفت فالسياني اهتمام وسائل الإعلام على نطاقٍ واسع ورشّح نفسه للبرلمان الأوروبي غير أنه فشل. ومن المعروف أنّه يستخدم هوية مستعارة ويتنكر ويظهر في الأماكن العامة برفقة حراس شخصيين. اعتقل فالسياني في ديسمبر ووجّهت إليه النيابة العامة السويسرية تهمة سرقة بيانات من بنك HSBC بنية "كسب المال".
وصلت بيانات HSBC التي كشفها فالسياني، أولًا، إلى أيدي السلطات الفرنسية التي اتهمت بعد ذلك هذا البنك الذي يوجد مقره في لندن بالتسويق المباشر غير القانوني للرعايا الفرنسيين وتبييض الأموال وتسهيل التهرب من الضرائب.
وتقاسمت السلطات الفرنسية البيانات هذه مع دول أخرى بما فيها الولايات المتحدة، وهي تُستخدم الآن في التدقيق في الضرائب وفي محاولات لاسترجاع تلك التي تم التهرب منها حول العالم.
وقالت صحيفة الغارديان إنّ التسريبات هذه ستعزّز الدعوات المطالبة باتّخاذ إجراءات صارمة ضد الملاذات الضريبية الخارجية في الولايات المتحدة، وبريطانيا، وغيرها من الدول في أوروبا، حيث الخزانات العامة تخسر المعركة ضد أصحاب النفوذ والأثرياء في العالم.
ويواجه المصرف، حاليًا، تحقيقات وتهما إجرامية في كلٍّ من فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة والأرجنتين نتيجة لتسريب هذه البيانات، غير أنّه لم يتّخذ أي إجراء قانوني ضده في بريطانيا.