في العاشر من يوليو الجاري، أصدرت محكمة أبوظبي الاتحادية الاستئنافية (محكمة أمن الدولة) أحكاماً بإدانة ٤٣ مواطناً بالسجن المؤبد، و10 آخرين بين السجن 10 أعوام و١٥ عاما في القضية المعروفة إعلامياً باسم "الإمارات 84" والتي تم تداولها حكومياً تحت اسم قضية تنظيم العدالة والكرامة، وهي ثاني أكبر قضية سياسية في تاريخ الامارات بعد قضية "الإمارات ٩٤"، التي حوكم فيها نفس الأشخاص، أَضيف إليهم اثنان فقط.
عمدت أبوظبي إلى تشديد العقوبات في المحاكمة الأخيرة، رغم تأكيد القوانين الإماراتية والدولية عدم قانونية المحاكمة كونها قد تم الفصل فيها مسبقاً في قضية "الإمارات 94" منتصف 2013.
فكيف تحايلت أبوظبي على هذه النقطة؟
بحسب ما هو معلوم فإن جميع المتهمين في قضية "الإمارات 84" -باستثناء الذين في الخارج- جميعهم يقضون -أو أمضوا- أحكامهم في السجون لما يزيد أو ينقص عن العشر سنوات، في قضية "الإمارات 94" بتهمة التخطيط للإطاحة بالحكومة.
وبعد 12 عاماً من مكوثهم في السجن عادت أبوظبي لتُلفِّق لهم تهماً جديداً بإنشاء تنظيم سري (تنظيم العدالة والكرامة) "بغرض ارتكاب أعمال عنف وإرهاب على أراضي الدولة". وزعمت أن المتهمين كانوا قد أخفوا هذه الجريمة وأدلتها قبل اعتقالهم في 2012، ومحاكمتهم في قضية "الإمارات 94"، وفقاً لوكالة أنباء الإمارات (وام).
الأسوأ أن محاكمة "الإمارات 84" انطلقت في ديسمبر 2023، بالتزامن مع انعقاد قمة المناخ (كوب 28)، التي أقيمت في دبي، في الوقت الذي كان ينتظر المجتمع الحقوقي حول العالم أن تبادر السلطات إلى إطلاق سراح المعتقلين في سجونها، "مما يجعل مما يجعل هذه المحاكمة أشدَّ هولاً"، وفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش.
ما يثير أسئلة عدة، أبرزها: أين كانت الأجهزة الأمنية في ذلك الحين؟
دائماً ما تتفاخر السلطات الإماراتية وإعلامها الرسمي بمستوى الأمن الشديد وجودة الحياة وبـ"السرعة القياسية" في كشف الجرائم؛ بهدف جذب أكبر قدر من المستثمرين والتسويق لها كوجهة مثالية للعيش بأمان. وفي 2022 دخلت خمس مدن إماراتية في قائمة المدن العشرة الأكثر أماناً على مستوى العالم، حيث احتلت الفجيرة المرتبة الأولى، فيما احتلت أبوظبي المركز الثاني، وجاءت عجمان في المركز السابع، فيما حلت الشارقة ودبي بالمركزين الثامن والتاسع على التوالي، وفقاً لموقع "نومبيو" الدولي المتخصص بتقديم إحصاءات دورية حول العديد من المرجعيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية حول العالم.
واقعيا، فإن "جريمة" تأسيس تنظيم سري -فيما لو افترضنا وقوعها حقيقة- فهي حدثت قبل ما يزيد عن ١٢ عاما، وانتبه لها جهاز أمن الدولة في ٢٠٢٣، تعتبر -بحسب محللين- إهانة للأجهزة الأمنية، فدولة مثل الإمارات تنافس أغلب المؤشرات الدولية وتستقطب استثمارات مليارية؛ يتأسس فيها تنظيم لارتكاب أعمال إرهابية ونشر الذعر والرعب بين الناس يُكتشف بعد ١٣ عاما؟
متظاهرون خلال مؤتمر المناخ (كوب 28) يحملون صورة معتقل الرأي محمد الركن
أين كان تنظيم العدالة والكرامة؟
يدرك المتفحص لمجمل الحركات الاجتماعية في الإمارات عدم وجود اسم التنظيم الذي ذكرته "وام" وأطلقته إعلامياً على القضية (قضية تنظيم العدالة والكرامة)، وإنما ورد هذا الاسم في لائحة الاتهام لاثنين من المتهمين في قضية "الإمارات ٩٤" وتم نفيه من قبلهم، لتعود أبوظبي بعد 11 عاماً وتقضي على 43 مواطناً بالسجن المؤبد بتهمة تشكيل نفس التنظيم.
نجحت أبوظبي في جعل دعوة الإصلاح بحكم المنتهي ميدانيا، فمن الواضح أن من يدير الملف الامني بالدولة يتبنى سياسة اختلاق العدو الوهمي والخطر المتعاظم لأجل الاستمرار في الحصول على النفوذ والموارد، وكذلك استخدامه كشماعة لتعطيل أي توجه يدعو الى الانفتاح السياسي أو التمكين الشعبي، حيث تكرر هذا الخطاب على لسان عدد من الكتاب المقربين من السلطة؛ لتبرير عدم الالتزام بخطة التمكين التي كان المفترض أن تشمل عامة الشعب في العام ٢٠١٨ كما صرح بذلك وزير شؤون المجلس الوطني في وقت سابق.
إن المتتبع للملفات الحقوقية الداخلية يجد أن النشطاء والمنظمات الحقوقية المعتبرة كانت قد بدأت العد التنازلي لإغلاق ملفات معتقلي الرأي مع انتهاء فترة أحكامهم، والذي قد يعدل من مؤشرات الدولة في الأوساط الحقوقية الدولية، ولكن للأسف يبدو أن المتنفذين الامنيين لديهم حساباتهم الأخرى والتي عادة قد تصب في مصالحهم الذاتية الآنية، ولكنها تعاظم من أثرها السلبي على مصالح الوطن والمواطن.