سلطت مجلة "ذا دبلومات" الآسيوية الصادرة في اليابان، الضوء على صناعة المصرفية الإسلامية في إيران، وقالت المجلة في تقرير لها أعده جاكوبو ديتوني، المختص في شؤون الأعمال والاقتصاد، إن إيران تعد من رواد التمويل الإسلامي، ففي عام 1983، وبعد أن أطاحت الثورة التي قادها آية الله الخميني بالشاه بأربع سنوات، أصدرت الحكومة الإسلامية هناك قانون الخدمات المصرفية الخالية من الربا، الذي أجبر البنوك على إعادة هيكلة أعمالها بناء على منتجات متوافقة مع الشريعة الإسلامية.
وبعد مضيّ أكثر من 30 عاماً على صدور هذا القانون، تظل الصناعة المصرفية الإيرانية خاضعة بالكلية لأحكام الشريعة، وتعدّ أكبر مركز للخدمات المصرفية الإسلامية في العالم وبفاصل كبير، لكن خبرتها فريدة من نوعها في المجتمع الإسلامي العالمي، وفقاً للمجلة؛ إذ أنها مستوحاة من الفقه الشيعي الذي كثيراً ما ينحرف عن الفقه السني الذي يمثل التيار السائد، وقد شكك علماء الدين السنة مراراً في "مشروعية" البنوك الإيرانية، بل وذهب بعضهم إلى حد القول بأن هذه البنوك "ما هي إلا أسماء إسلامية، وهي في حقيقتها نسخة زائفة من البنوك الإسلامية"، وفقاً لما جاء نصّاً في ورقة بحثية نشرتها الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.
عودة إيران المالية
لكن مع قرب إيران على ما يبدو أكثر من أي وقت مضى من التوصل إلى اتفاق مع الغرب بشأن برنامجها المثير للجدل لتطوير أسلحة نووية، باتت المؤسسات المالية المحلية مهيأة لاستعادة إمكانية الوصول إلى الأسواق الدولية ووضع منتجاتها المتوافقة مع الشريعة الإسلامية بين أيدي المتحمسين لهذه السوق الصاعدة، لكن بدلاً من إضافة زخم جديد إلى صناعة التمويل الإسلامي المتنامية، تخاطر عودة إيران المالية بفتح فصل جديد في صدام المبادئ الذي مضى عليه قرن من الزمان بين المذهبين السني والشيعي، بحسب التقرير.
قال منذر قحف، الباحث في الشريعة الإسلامية وأستاذ التمويل والاقتصاد الإسلامي في كلية قطر للدراسات الإسلامية، في حديث مع مجلة "ذا دبلومات": "في حالة التوصل فعلاً إلى اتفاق مع الغرب، ستظل إيران مع ذلك منفصلة؛ لأن مفهومها للتمويل الإسلامي لا يماثل بالضبط مفهوم التمويل الإسلامي في البلدان الإسلامية الأخرى؛ وهذا نتيجة موقف فكري متبع في إيران وقد لا يكون مقبولاً في البلدان الأخرى".
يحرّم التمويل الإسلامي استخدام سعر فائدة ثابت محدد سلفاً (يُعرف أيضاً باسم الربا) في المعاملات المصرفية والمالية، كما يحرّم الاستثمار في المشروعات التي توفر سلعاً أو خدمات تعتبر متعارضة مع مبادئه. وليست الفوائد المالية محرمة بالكلية، إذْ هي مقبولة ما دامت تمثل نسبة من الربح المحقق باستخدام رأس المال. ومن ثم فالخدمات المصرفية الخالية من الربا تترجم إلى عقود مثل المضاربة، التي تشير إلى اتفاق لتشارك الأرباح بين البنك وعملائه، إما على هيئة ودائع وإما قروض.
وعلى الرغم من أن ممارسات التمويل الإسلامي طُورت أول ما طُورت في دولة الخلافة فيما بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلاديين، فإنها اكتسبت زخماً جديداً في أواخر القرن العشرين، وذلك عندما كدّست بلدان مثل المملكة العربية السعودية كميات هائلة من البترودولار وبدأت تركز على الطريقة التي تجعل بها قطاعاتها المالية التي تشهد طفرة تلتزم بتعاليم القرآن الكريم.
وعلى مدى العشرين سنة الماضية، تسارع تطور صناعة التمويل الإسلامي، حيث بلغت الأصول المصرفية الإسلامية العالمية نحو 1560 مليار دولار بنهاية عام 2014، وذلك وفقاً للأرقام الصادرة عن مجلس الخدمات المالية الإسلامية.
في الوقت نفسه، نمت الصكوك (السندات الإسلامية) مستحقة الأداء بنسبة 20.7% سنوياً بين عامي 2008 و2013 لتصل إلى 294.7 مليار دولار في نهاية سبتمبر (أيلول) 2014، وفقاً لما تظهره أرقام مجلس الخدمات المالية الإسلامية، ومن المتوقع أن يواصل كلّ من أصول المصارف والسندات الإسلامية النمو بمعدلات من خانتين في السنوات المقبلة، وفقاً لتقديرات مراقبين دوليين مثل شركة الاستشارات "ديلويت" ووكالة التصنيفات الائتمانية "موديز".
نهاية العزلة؟
تشكّل إيران – وهي الدولة الإسلامية الوحيدة بالإضافة إلى السودان التي تُلزم صناعتها المالية بأكملها بالالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية – أكثر من 40% من إجمالي الأصول المصرفية الإسلامية في العالم، وتليها المملكة العربية السعودية بفاصل كبير بحصة مقدارها 18.5% ثم ماليزيا بحصة مقدارها 9.56% ثم الإمارات العربية المتحدة بحصة مقدارها 7.36%.
غير أن سنوات من العزلة منعت سندات إيران من الوصول إلى الأسواق الدولية، مما ترك زعامة سوق الصكوك العالمية للمملكة العربية السعودية وقبل كل شيء ماليزيا، وربما تكون الأمور في طريقها إلى نقطة تحول الآن، إذ يبدو أن الجمهورية الإسلامية ومجموعة الخمسة زائد واحد (الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا) أقرب من أي وقت مضى إلى التوصل إلى اتفاق بشأن برنامج تطوير الأسلحة النووية الإيراني، ومن شأن التوصل إلى اتفاق أن يؤذن بالرفع التدريجي للعقوبات الغربية، وأن يعيد إيران إلى سابق عهدها كعضو شرعي في المجتمع المالي العالمي.
وقال عشرت حسين، محافظ البنك المركزي الباكستاني سابقاً، في حديث مع مجلة "ذا دبلومات": "هذه الحكومة الإيرانية التي يقودها حسن روحاني حريصة كل الحرص على إدماج البلد في الاقتصاد العالمي، فلا بد لهم من أن يلحقوا بركب سائر دول العالم، والآن وقد صار رفع العقوبات أمراً محتملاً، فعلى الحكومة والقطاع الخاص أن يفعلا الشيء الكثير لإعادة بناء الاقتصاد".
غير أن السندات والأدوات المالية الأخرى الإيرانية لن تحظى بقبول سهل لدى مديري الأصول السنّة.
يقول قحف: "في إيران، كل ما يقرّه الولي الفقيه الإيراني [المرشد الأعلى آية الله خامنئي الذي خلف الخميني في عام 1989]، أو كل ما تقره الحكومة الإسلامية باسمه، يعتبر إسلاميّاً"، وتضم إيران أكبر طائفة شيعية في العالم، حيث يمثل الشيعة هناك 95% من سكان البلد، وتشير التقديرات إلى أن الشيعة يمثلون ما بين 10% و20% من المسلمين في العالم، والبقية سنّة.
ويتابع: "وأما في البلدان السنية، فنحن نعتمد اعتماداً أكبر على الشريعة الإسلامية كما فهمها أصحاب المذاهب الفقهية السنية الأربعة، والتي تشكّل الأساس الذي يقوم عليه أي رأي في التمويل الإسلامي، [...] وهذا يعني أن كل ما يوصف بأنه تمويل إسلامي في إيران لن يكون على الأرجح مقبولاً كتمويل إسلامي خارج إيران، نتيجة لذلك فإن الصكوك التي تصدر في إيران لن تجد لها عملاء في البلدان السنية، مثل قطر أو ماليزيا أو باكستان، والعكس صحيح".
بالإضافة إلى اختلاف النهج الفقهي، أثيرت أيضاً شكوك في التزام البنوك الإيرانية الحقيقي بمطابقة قواعد الشريعة الإسلامية المحلية.
تقول الورقة البحثية التي نشرتها الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا: "يبدو أن كثيراً من الأنشطة التي تعد ممارسة شائعة في البنوك الإيرانية مماثلة تماماً لما تمارسه البنوك التجارية"، وبعد سن قانون الخدمات المصرفية الخالية من الربا في عام 1983، لم يستطع العملاء ولا البنوك تنفيذ المبادئ الإسلامية.
ووفقاً لتقرير المجلة الآسيوية، أدت سنوات من العزلة واختلاف النهج في التمويل الإسلامي إلى ترك إيران على هامش صناعة تمويل إسلامي عالمية متنامية، بل إن حقيقة أن البلد ربما يكون مقبلاً على تدشين عودة مالية لم تحظ حتى باهتمام كبير خلال قمة مجلس الخدمات المالية الإسلامية الأخيرة – إحدى أهم الفعاليات على التقويم السنوي لصناعة التمويل الإسلامي – التي عقدت في مدينة ألماتي الكازاخستانية في مايو(أيار) الماضي، حيث تقاسمت المملكة العربية السعودية وماليزيا والإمارات العربية المتحدة الأضواء باعتبارها قائدات هذه الصناعة، فيما أشارت الأصابع إلى تركيا وإندونيسيا باعتبارهما صاحبتي المركز التالي، على الرغم من أن الأصول المتوافقة مع الشريعة الإسلامية تظل مجرد جزء صغير (متنامٍ) من إجمالي الأصول في كلا البلدين، ولم يمثل إيران في هذه القمة إلا عدد ضئيل من الوفود.
وصرح محمد فتنات، رئيس منظمة الأوراق المالية والبورصة – الجهة المنظِّمة للسوق الإيرانية – في حديث مع "ذا دبلومات" على هامش قمة مجلس الخدمات المالية الإسلامية: "الأمر أشبه بشراء هاتف ذكي، فلا يوجد هاتف ذكي شيعي أو سنّي، فالاثنان سيان". ويستدرك قائلا، لكن الإيرانيين سيحتاجون إلى ما هو أكثر من هذا بكثير لإقناع إخوانهم من المسلمين بأن الصكوك الشيعية، في المحصلة النهائية، مماثلة تماماً للصكوك السنية.