بعد أن أُصيبت بخيبة أمل وإحباط من عدم التفات الولايات المتحدة إلى نصيحتها بشأن سوريا والعراق بالإضافة إلى النفوذ الإيراني المتنامي في تلك البلدان، يبدو أن تركيا قررت إصلاح العلاقة الفاترة مع المملكة العربية السعودية. عندما توفي الملك «عبد الله» في وقت سابق من هذا العام، قطع الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» على الفور جولة إفريقية، وتوجه الى الرياض لتقديم التعازي للملك «سلمان» في وفاة أخيه غير الشقيق. كما أعلن فترة حداد في تركيا أمر خلالها بإنزال العلم التركي إلى نصف الصاري. وخلال لقاء «أردوغان» مؤخرًا مع الملك السعودي الجديد «سلمان بن عبد العزيز آل سعود» اتفقت الدولتان على زيادة الدعم السعودي التركي للمعارضة السورية. ويقال إن «سلمان» وعد «أردوغان» بدعم طلب تركيا إقامة منطقة حظر جوي في سوريا.
وتمتعت تركيا والمملكة العربية السعودية بعلاقات وثيقة في ظل حكومات حزب العدالة والتنمية، كانت عملية الازدهار في تدفقات التجارة والاستثمار أبرز ملامح تلك العلاقات. ووصلت تلك العلاقات إلى ذروتها في أول سنتين من الصراع السوري عندما دعمت أنقرة والرياض بشدة المعارضة السورية في محاولة لإسقاط نظام الرئيس السوري «بشار الأسد». وتلقى التعاون السعودي التركي ضربة عندما وجد البلدان أنفسهما على طرفي نقيض في مصر خلال صيف عام 2013. ففي الوقت الذي دفعت فيه المملكة العربية السعودية خلف الجنرال «عبد الفتاح السيسي» ووصفت جماعة الإخوان المسلمين بالمنظمة الإرهابية، رحبت تركيا برموز الإخوان المسلمين على أراضيها ووفرت لهم الملاذ ورفضت ما قام به الجنرال «السيسي». وبسبب انتقادات تركيا لدول الخليج بسبب دعمها الإطاحة بجماعة الإخوان، فقد توترت العلاقات بين أنقرة والرياض. ومنذ ذلك الحين لعبت الرياض دورا رئيسيا في الحملة ضد مساعي تركيا الحصول على مقعد في مجلس الأمن في الأمم المتحدة في أكتوبر 2014.
ويأتي التقارب مع الرياض في الوقت الذي وجدت تركيا نفسها فيه مهمشة على نحو متزايد في الشؤون الإقليمية، ولا سيما فيما يتعلق بنفوذ إيران المتنامي في العراق على حساب تركيا، فضلا عن فشل واشنطن للعمل بقوة أكبر ضد نظام «الأسد».
وعززت سيطرة «الدولة الإسلامية» على مساحات واسعة من الأراضي العراقية من موقف إيران، وذلك راجع في جزء كبير منه بسبب نجاح المليشيات الشيعية العراقية -العديد منهم وكلاء لإيران- في استعادة هذه الأراضي واحدة تلو الأخرى. وفي مقابلة معه بعد سيطرة «الدولة الإسلامية» على الموصل وتهديد أربيل عاصمة إقليم كردستان، أكد «فؤاد حسين» -رئيس ديوان رئاسة إقليم كوردستان- عن عدم رضا أربيل عن تركيا واستيائه منها لكونها تتكلم كثيرا ولا تفعل شيئا في وقت بات الخطر فيه وشيكا. وقال «حسين»: «اعتادت تركيا أن تكرر أنه إذا تم تهديد أمن إقليم كردستان فإنها ستتدخل. حسنا … لقد كان أمننا في خطر، ولم نتلق أي دعم من تركيا ولم تحرك ساكنا». وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية الإيراني« محمد جواد ظريف»، قال رئيس حكومة إقليم كردستان «مسعود بارزاني» إن ايران أول دولة تساعد حكومة إقليم كردستان، وتمد الأكراد بالسلاح والمعدات اللازمة.
ونظرا لانزعاجها نتيجة زيادة الدور الإيراني في العراق، فقد دعت تركيا مرارا إلى إعادة هيكلة الجيش العراقي ليشمل السنة، ولكن دعواتها ومطالباتها لم تجد آذانا صاغية. وبعد فترة من التوتر في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق «نوري المالكي»، حققت تركيا مبادرات لرأب الصدع مع الحكومة الجديدة بقيادة «حيدر العبادي». وخلال زيارة رئيس الوزراء التركي «أحمد داود أوغلو» إلى بغداد في نوفمبر / تشرين الثاني، شدد «داود أوغلو» على رغبة تركيا في رؤية حكومة شاملة في بغداد، وكرر التزام تركيا بأمن العراق ووحدته.
عدم التوافق بين نهج أنقرة وواشنطن تجاه الصراع في سوريا فاقم من إحباط تركيا وخيبة أملها. وانتقدت تركيا منذ فترة طويلة عدم استعداد إدارة أوباما لاتخاذ تدابير أكثر قوة ضد نظام «الأسد»، في الوقت الذي شعرت فيه واشنطن بالإحباط مع رفض حلف شمال الأطلسي منح وصول الولايات المتحدة إلى قاعدة أنجرليك الجوية لشن هجمات ضد «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق. ولكن الحكومة التركية تصر على أنها لن تنظر إلى هذا المطلب من الولايات المتحدة إلا إذا وافقت واشنطن على استهداف نظام الأسد وإقامة منطقة حظر جوي في سوريا لوقف هجمات النظام على المعارضة. وفي فبراير / شباط، وقعت أنقرة اتفاقا لتدريب وتجهيز مقاتلي المعارضة السورية المعتدلة. وكجزء من هذه الخطة، فإن الولايات المتحدة سوف ترسل أكثر من 400 جندي إلى تركيا، في الوقت الذي ستستضيف فيه تركيا المتمردين على أراضيها لتدريبهم. وعلى الرغم من الاتفاق، فإن الخلاف بين واشنطن وأنقرة لا يزال قائما بشأن سوريا، حيث إن الولايات المتحدة تصر على أن الضربات لن تتخطى «الدولة الإسلامية»، بينما تصر أنقرة على أنه يجب أيضا استهداف نظام «الأسد».
واقتناعا منها بأن المحور الشيعي الذي تقوده إيران يتشكل ممتدا إلى جنوبها، وأن الولايات المتحدة غير مستعدة للالتفات لمشورتها بشأن سوريا، تحولت أنقرة إلى حليفها الوثيق القديم -المملكة العربية السعودية- لاستعادة دورها القيادي في المسائل الإقليمية، ومواجهة النفوذ الايراني المتزايد، وكسب الدعم السعودي لسياستها في سوريا. ومن جانبه، قال «إبراهيم كالين» – المتحدث باسم الرئيس -في مقالة رأي منشورة بصحيفة «ديلي صباح» الموالية للحكومة- إن الاحتياجات والأولويات الاستراتيجية لأنقرة والرياض تتطلب تعاونا أوثق وأكثر شمولا حول القضايا الإقليمية مثل الصراعات في سوريا واليمن وليبيا والعراق وإسرائيل وفلسطين. ويبدو أن الاثنين قد قررا وضع خلافاتهما جانبا في الوقت الراهن لصالح استراتيجية مشتركة في سوريا وضد إيران. ولكن هناك العديد من العقبات المحتملة في المستقبل.
ولكي تتفق الرياض وأنقرة على استراتيجية مشتركة خاصة بسوريا وليبيا واليمن وعملية السلام يجب أولا تسوية خلافاتهما بشأن جماعة الإخوان المسلمين في مصر. وقد يكون الحل الوسط هو تليين موقف المملكة العربية السعودية من الإخوان في مقابل أن تقوم تركيا بإعادة بناء علاقاتها مع مصر اليوم بقيادة «السيسي».
وقد تواجه الدولتان تحديات في ما يتعلق بسوريا كذلك. وتتفق الرياض وأنقرة على أولوية الإطاحة بنظام «الأسد»، كما أن كليهما يشعر بالإحباط من سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا. وتأمل تركيا الحصول على دعم سعودي لمطلبها إقامة منطقة حظر جوي وتعزيز يدها وجها لوجه مع الولايات المتحدة في سوريا. ولكن تركيا قد تجد قريبا أن الدعم السعودي لن يقطع شوطا طويلا نحو إقناع الغرب بإقامة منطقة حظر جوي ومحاربة نظام «الأسد». ومن المرجح ألا تنجح تركيا والسعودية في ترجيح كفة الميزان في سوريا بدون الحصول على دعم من الغرب.
ولم تتفق الدولتان أيضًا بشكل تام على أي الجماعات الأحق بالدعم على الأرض. فقد دعمت تركيا لفترة طويلة جبهة النصرة، وهي الجماعة التي لا تشعر معها المملكة العربية السعودية بالاتياح بشكل كبير. وشرعت أنقرة مؤخرا في تطبيق استراتيجية تهدف إلى تعزيز جبهة النصرة ضد «الدولة الإسلامية»، ما يجعل وجود استراتيجية مشتركة على الأرض أكثر تعقيدا.
ومن الممكن أن يكون موقف تركيا تجاه إيران عامل تعقيد آخر، حيث إن تركيا تضع حدودا لمواجهتها ومعارضتها لإيران. وتستورد تركيا نحو 20% من احتياجاتها من النفط والغاز من إيران، وزرعت أنقرة وطهران مؤخرا المزيد من العلاقات الاقتصادية الوثيقة. وفي الماضي، على الرغم من الخلافات فيما يتعلق بسوريا والعراق، فقد امتنعت تركيا عن استعداء إيران، ومن المرجح أن تتبع نهجا مماثلا في المستقبل.
ومن المرجح أن يسفر التعاون التركي السعودي عن نتائج. كل من تركيا والمملكة العربية السعودية تربطهما علاقات وثيقة بالعشائر السنية، ويمكنهما استخدام هذا النفوذ لتعبئة هذه القبائل ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». صبغ الأمور بالصبغة السنية خلال العملية في الموصل قد يقطع شوطا طويلا نحو تخفيف التوترات الطائفية وتقويض القاعدة الاجتماعية للدولة الاسلامية.
ويبدو أن الإحباط المشترك والمخاوف قد تكون سببا في تقارب الرياض وأنقرة معا. ولكن إلى أي مدى وعمق سيكون هذا التقارب الجديد، وإلى أي مدى سيستمر، هذا ما ننتظره.
"ترجمة وتحرير الخليج الجديد"