تناول الكاتب آلاستير سلون، الموقف السعودي من الربيع العربي في العام 2011، في تقرير له نشره "ميدل إيست مونتور" فقد تساءل الكاتب: كيف تعامل آل سعود مع الروح الثورية التي اجتاحت الوطن العربي في 2011؟ قائلاً إن تصرف السعودية تجاه هذه الأزمة يشابه تمامًا تصرف أبنائها الأشقياء في نوادي الرقص الليلية في لندن، حيث إن هؤلاء الأولاد عديمي الجدوى في المملكة السعودية التي تضم موقعين من أقدس المواقع الاسلامية، يعالجون مشاكلهم بإغداق المال عليها.
رد فعل العائلة الحاكمة تمثل بالناحية الاقتصادية، حيث قامت المملكة بضخ أموال تعادل قيمتها 120 مليار دولار في السوق السعودية، وهذه الأموال هدّأت من ثورة الشعب السعودي فورًا، كونها ترافقت مع عطايا صحية وتعليمية جديدة، وتزامنت مع فوائد اقتصادية تم إغداقها على الشعب الغاضب، وتم فتح المزيد من فرص العمل، في القطاع العام للمملكة الذي يعاني أساسًا من التضخم، حيث تم توظيف خريجي الجامعات في المؤسسات البيروقراطية القائمة على أساس ديني، أما أبناء المملكة الأقل حظًا في التعليم فشغلوا أدوارًا جديدة تم افتتاحها في قطاعي الشرطة والجيش، وعلى الرغم من أن خطة العائلة الحاكمة كانت تتضمن بعض التحركات السياسية التي عملت جنبًا إلى جنب مع رشوة الشعب، إلا أن الحل بجوهره كان يعتمد على شراء آل سعود لطريقهم نحو بر الأمان.
إن التوليفة السعودية للحكم تعتمد على المعادلة التالية: الدولة ستصادر الحريات، وستسلب المواطنين الحق في قيادة أو تنظيم مسيرة معارضة، وستحجب عنهم الحق بالاحتجاج على الظلم، ولكن بالمقابل المواطن لن يدفع أي ضرائب، وليس عليه سوى الاسترخاء للاستمتاع بسخاء الدولة؛ وعلى الرغم من أن القطاع التعليمي السعودي متواضع علميًا، إلا أن القطاع العام يوفّر لثلثي الشعب وظائفًا شاغرة هيّنة ولا تتطلب سوى قدرات فكرية متواضعة.
إن الصفقة السعودية سابقة الذكر تعتمد بالطبع على الأموال التي تتدفق بوفرة إلى الخزينة العامة، والناجمة عن سيول النفط التي تُغْرِق البلاد، والتي لا تجرؤ معظم الدول في الجنوب العالمي على مجرد الحلم بها؛ ففي عام 2011، أنتجت المملكة العربية السعودية 12% من مجمل إنتاج النفط العالمي، وبالنتيجة كان صافي أرباحها في تلك السنة أكثر من 300 مليار دولار، لذا فإن الرشوة التي قدمتها المملكة للجمهور في تلك السنة لتجنب تكلفة الثورة لم تتجاوز ثلث إيرادات الخزينة من النفط.
ولكن هذه المعادلة لم تستمر، كون الرشاوى التي تُدفع للشعب أخذت في الازدياد، فوفقًا للأرقام الصادرة عن مؤسسة النقد العربي السعودي، فإن معدل الإنفاق بالنسبة إلى الناتج العام الإجمالي ازداد أكثر من الضعف في عام 2012، وفي عام 2013 ازداد هذا الإنفاق بنسبة 20%، قبل أن يتراجع في عام 2014، أما في هذا العام فإن معدل الإنفاق مازال ثابتًا، ولكن على الجهة الأخرى، لم تبقَ الظروف الدولية كما هي بالنسبة للمملكة، خاصة في ظل تراجع أسعار النفط، الذي نجم عن بدء الولايات المتحدة الأمريكية في صب النفط الصخري الأمريكي في الأسواق العالمية، ورفض الرياض خفض معدل إنتاجها من النفط الخام التقليدي.
هناك عدة نظريات تفسّر سبب عدم إغلاق السعودية لصنابيرها النفطية، فأحد التكهنات تشير إلى أن هذا الموقف مرتبط بتحرك جيوسياسي يهدف إلى كبح جماح إيران ومعاقبة روسيا لدعمهما لحكم بشار الأسد في سوريا؛ كما أن تكهنًا آخر يشير إلى أن صناعة النفط الصخري المولودة حديثًا في الولايات المتحدة، تشكّل تهديدًا لحصة السعودية في السوق النفطية، وبالنظر إلى التكاليف الباهظة التي تتكلفها الولايات المتحدة لاستخراج النفط الصخري، يكون من مصلحة السعودية الاستمرار بإنتاج النفط السعودي بذات الوتيرة للحفاظ على انخفاض أسعاره، كون هذا سيؤدي إلى إجبار الولايات المتحدة على الاستسلام بالمحصلة، وبالطبع فإن نجاح هذا السيناريو سيعزز من هيمنة السعودية على أسواق النفط العالمية.
في حال إلقاء نظرة عن كثب على واقع الاقتصاد السعودي، يتبين أن السعودية قادرة على تحمل الخسائر الناجمة عن الاستمرار في إنتاج النفط، كونها تحتفظ باحتياطيات نقدية كبيرة من العملات الأجنبية، وهذا سيساعدها على الحفاظ على مستوى الإنفاق الحكومي الذي سيستمر بالتصاعد مؤمنًا للعائلة المالكة سبيل بقائها بالسلطة؛ فعلى سبيل المثال، يمكن للرياض أن تتحمل عبء انخفاض عائدات النفط بشكل أكبر مما قد تتحمله روسيا، فالروبل الروسي تحطّم تقريبًا إثر الانخفاضات المتوالية في سعر برميل النفط خلال الفترة الماضية؛ مما عجّل بخلق أزمة الاقتصادية روسية قد تستمر لعدة سنوات قادمة.
تشير التوقعات بأن المملكة العربية السعودية ستعاني من عجز في ميزانيتها لعام 2015، ولكنها مع ذلك ستضخ حوالي 40 مليار دولارًا في السوق السعودية، علمًا بأن الحكومة السعودية أشارت إلى أنه سيتم تخفيض رواتب موظفي القطاع العام، والتي تمثل نصف نفقات الحكومة لمجاراة العجز الحاصل في الميزانية، ويشير معهد أبحاث تشاتام هاوس الشهير، بأن رواتب القطاع العام هي التي تحفظ الوضع من الانفجار في السعودية، فعلى الرغم من أن السعودية يمكنها تخفيض رواتب القطاع العام، إلا أن الاستمرار بالتخفيض لفترة طويلة سيهدد استقرار الحكم السعودي عن طريق الاضطرابات التي ستعم المملكة.
بناء على ما تقدم فإن آل سعود لديهم طريقتين لإنقاذ أنفسهم من هذه الأزمة الخانقة: الأولى تتمثل بتنويع الاقتصاد والابتعاد عن اقتصاد القطب النفطي الواحد، والثانية تتمثل بدعم القطاع الخاص، وكلا الحلين يمثلان صعوبات جمة على الواقع السعودي.
بإلقاء نظرة على القطاع التعليمي السعودي نجد بأنه قطاع متواضع للغاية، فالتلاميذ في السعودية يمكنهم تلاوة الأحاديث النبوية الشريفة عن ظهر قلب، ولكنهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع جداول البيانات، ومنهج الرقابة الصارم الذي يتّبع العقيدة الوهابيّة، لا يشجع الطلاب على تنمية مهارات التفكير النقدي والتي تعتبر من المهارات المهمة في مجال القطاع الخاص، وعلى حد تعبير أحد الصحفيين فإن السعوديين يتم تدريسهم لمعرفة كيف يصلّون وكيف يتسوقون ولكن لا يتم تدرسيهم ليعرفوا كيف يفكرون، ولمواجهة هذا الواقع التعليمي المتردي؛ عمدت المملكة منذ عام 2005، إلى تحمل نفقات إيفاد الآلاف من الطلاب للدراسة في الخارج، ومع ذلك، فعندما تصبح نفقات متابعة الدراسة لديهم عالية جدًا، تعمل الحكومة على قطع المعونات.
يمكن تشبيه الاقتصاد السعودي بالاقتصاد الروسي، كون الأخير يعتمد أيضًا بشكل كلي على عائدات النفط، ولكن منذ سنوات تم اتخاذ القرار في روسيا لزيادة التنوع الاقتصادي، واستطاعت روسيا تحقيق عدد قليل من الإنجازات في هذا المجال على الرغم من معانتها من العديد من النكسات، ولكن بشكل عام مازال النفط يموّل أكثر من أربعة أخماس الإنفاق الحكومي الروسي، ومازال قطاع النفط يشكّل 90% من عائدات التصدير.
على صعيد متصل، كان للأمير الوليد بن طلال، رجل الأعمال الثري وابن شقيق ملك السعودية، عدة تصريحات بخصوص الاقتصاد السعودي؛ فعندما كان سعر النفط لايزال فوق المئة دولار للبرميل، حذّر الوليد من مغبة الاعتماد الكلي على النفط بقوله "نحن دولة لاتزال تعتمد كليًا على النفط، وهذا خطأ كبير وخطير، وإن الحديث عن ضرورة تنويع الاقتصاد السعودي مازال مستمرًا منذ حوالي ثلاثين سنة وحتى الآن"، ومنذ هذا التصريح انخفض سعر برميل النفط إلى النصف، حيث انتقد الوليد بن طلال سياسة الرياض مرة أخرى، عن طريق رسالة مفتوحة نشرها على موقعه على الإنترنت، توقع فيها أن الإفراط في الاعتماد على النفط سيجلب للسعودية في نهاية المطاف نتائج كارثية.
ذروة خطط تنمية القطاع الخاص السعودي تتمثل بأربعة مشاريع لمدن اقتصادية جديدة، حيث أعلنت الحكومة السعودية في عام 2005، عن خطة لبناء ست مدن اقتصادية جديدة، ولكن تم إلغاء مدينتين بعد عدة سنوات، وتمت المباشرة بإنجاز مشروع مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، وفي الحقيقة لم يتم بناء أكثر من 10% من هذا المشروع، رغم التأخير الذي استغرق عشر سنوات، كما أن الوعود التي أشارت إلى أن هذه المدينة ستوفّر الكثير جدًا من فرص العمل لم تتحقق، فهذه المدينة تشغّل حاليًا ما لا يزيد عن 12.000 شخصًا؛ ويشير البعض أنه بحلول عام 2020، وفي حال الانتهاء من إنجار مشروع المدن الاقتصادية الأربعة، فإن هذه المدن ستساهم بمبلغ لا يقل عن 150 مليار دولار بالناتج المحلي الإجمالي للمملكة العربية السعودية، وستفتح فرص عمل جديد لتستوعب ما بين 4 إلى 5 ملايين شخص، ولكن على حد تعبير النقاد فإن هذه الأهداف لن تتحقق مالم تحقق السعودية تقدمًا سريعًا للوصول إلى الأهداف.
كما أن المملكة السعودية وبهدف تطوير القطاع الخاص، قدمت مؤخرًا لأرباب العمل في القطاع الخاص حوافزًا مهمة لتوظيف المواطنين السعوديين، ولكن بالنظر إلى ضعف النظام التعليمي السعودي وضعف حماسة أبناء المملكة، فمن غير المتوقع أن تكون الشركات الخاصة مستعدة لتوظيف المزيد من المواطنين السعوديين، كون أغلب الشركات تعتمد على العمالة الأجنبية الأكثر مهارة والأكبر حماسة.
أخيرًا، على الرغم من قدرة المملكة العربية السعودية على التلاعب بأسواق النفط حاليًا، إلا أنها لن تستطيع الحفاظ على هذا الموقع لفترة طويلة، فكل دولار تستعمله المملكة من احتياطياتها النقدية، لن يتم تعويضه في حال نضوب النفط، وباختصار، فإن الطريق أمام الحكم السعودي سيكون قصيرًا، ما لم يتم إجراء تغييرات جذرية على طريقة الحكم أو إجراء تغييرات جذرية على النظام الاقتصادي المعتمِد كليًا على الواردات النفطية.